تتمتع الموسيقى بقدرة وإمكانات تربوية استثنائية، فشخصية الطفل المكوّنة من جوانب جسمية وعقلية ومعنوية واجتماعية تتفاعل معًا بطرق مختلفة، لذا تتيح التربية الموسيقية مساحة فريدة لتنمية هذه المكونات المختلفة. نتعرف في هذه المدونة على أهمية الموسيقى في مرحلة رياض الأطفال، ودورها في تنمية المهارات الحسية والسمعية وفي تحسين التحصيل الدراسي للأطفال فيما بعد مرحلة الروضة. نستمع كذلك إلى رأي إحدى المعلمات التي شاركت مؤخرًا في دورة متخصصة حول تنمية مهارات الفنون السمعية لدى الأطفال، فتحدثنا عن تجربتها وتطلعاتها.
مكوّن ضروري وفوائد لا تقدر بثمن
للموسيقى قدرة فريدة على التأثير في أدق انفعالات الإنسان والتعبير عن أحاسيسه وعواطفه، فهي تتيح آفاقًا للتعبير لا حدود لها، وتنمّي الصلات والتجاوب بين الحواس المختلفة والمهارات الحركية والتعبيرية، وتخلق جسرًا بين المنطق المُحكم والإبداع الحر، وتنمي ذائقة الإنسان وقدرته على إدراك الجمال والتعبير عنه.
تفسح الموسيقى المجال للطفل ليعبر عن مشاعره بطرق أخرى غير الكلام، وتنمي حواس الطفل من خلال استخدامه لأكثر من حاسة في آنٍ واحد، مما يؤدي إلى نضجه حسيًا وعقليًا. لذا يساعد وجود الموسيقى في مرحلة رياض الأطفال على تطوير شخصية الطفل بشكل متوازن، كما تشير جميع الأدلة إلى أن تأثير الموسيقى يصبح أقوى وأكثر فاعلية للأطفال عند بدء تفاعلهم معها مبكرًا.
وعلى مستوى أعمق، تمتد آثار التربية الموسيقية والفنون السمعية إلى التأثير إيجابيًا على التطوير الذاتي والصحة النفسية لدى الأطفال، حيث تسمح الممارسة الموسيقية للطفل بتحرير نفسه من مختلف التوترات النفسية اليومية، كما تتيح له كامل الحرية الإبداعية. وبفضل هذه السمات، فإن تنمية المهارات الموسيقية للأطفال تقدم لهم فرصًا للنمو والتطور أثناء ممارسة أنشطة يجدون فيها متعة ومرونة كبيرة.
وقد ثبت علميًا أن الموسيقى تؤدي إلى ضبط توازن النواقل العصبية الدماغية المسؤولة عن المزاج والسلوك والحركة، خصوصًا الدوبامين والإندورفين المعروفان بهرموني السعادة والنشاط. يسهم ذلك بشكل مباشر في تحسين القدرات الذهنية، لا سيما التركيز والانتباه وتقوية الذاكرة وزيادة القدرة على تنظيم المعلومات واسترجاعها، مما يحسن قدرات القراءة والكتابة وحل المسائل الرياضية وضبط التوازن الحركي.
أوجه انتفاع الأطفال من تعلّم الموسيقى
عند النظر بتمعن في المكاسب الناتجة عن تعليم الموسيقى للأطفال، نجدها كثيرة وذات تأثير مباشر على تطورهم حسيًا وذهنيًا واجتماعيًا، أولها التطور الفني والإبداعي، حيث أن تعلّم الموسيقى ينمّي الحس الجمالي لدى الأطفال ويمكّنهم من التمتع بكل ما هو فني وجميل، كما يحسّن الصحة النفسية بتقليل التوتر والقلق، ويبني القدرة على التخيل والابتكار والتعبير العاطفي، ويكسبهم مهارات العمل الجماعي بتعزيز ثقتهم في أنفسهم كأفراد يتعاونون مع الآخرين من حولهم.
أما على مستوى التحصيل الدراسي، يسهم تعلّم الموسيقى بشكل مباشر في تعزيز أربعة جوانب بالغة الأهمية في مهارات الأطفال الإدراكية والحسية، أهمها هو وضع أساس قوي لمهارات القراءة واللغة لدى الأطفال، فالموسيقى تيسّر تعريف الأطفال بالأصوات والكلمات، وتساعدهم على استيعاب مفاهيم التكرار والإيقاع بسهولة. ولأنها تعزز مناطق الذاكرة ومهارة استرجاع المعلومات، تمثّل الموسيقى وسيلة ممتازة لإيصال أي حكاية تربوية هادفة باستخدام الأغاني، بداية من أنشودة حروف الأبجدية التي تساعدنا طوال حياتنا على تذكر الحروف مهما كبرنا.
ولأن الموسيقى تخاطب العقل والمنطق كما تخاطب العاطفة، فهي تُعد وسيلة فعالة في بناء قدرة الأطفال على اكتساب مهارات الأداء الحسابي، حيث يتعرض الأطفال لمفهوم الأنماط والتكرار وفهم الأعداد وكيفية تأثيرها على بعضها بعضًا، فأساس الموسيقى هو الإيقاع والتكرار والعدد.
ولا يقتصر تأثير الموسيقى على المهارات الفردية وحدها، حيث يمتد إلى تعزيز الذكاء الاجتماعي لدى الأطفال أيضًا، لأن الموسيقى بطبيعتها جماعية، ومن خلال ممارستها يتعلم الأطفال معاني التعاون والمشاركة، ويختبرون بأنفسهم كيف يسهم الفرد في إنتاج الجماعة.
وأخيرًا، تفتح الموسيقى للأطفال نافذة يتعلمون خلالها تقدير الإبداع وتذوقه، بداية من ترسيخ الثقافة والموروث السعودي، وصولًا إلى التعرف على آلات وأنغام من مختلف الثقافات عبر ألوان الموسيقى المختلفة التي يستمعون إليها في صفوفهم، وتجريب قدرة الآلة ذاتها على عزف إيقاعات تنقل ألحان الشرق والغرب، فهي لغة إنسانية عالمية عابرة للحدود بكل ما لذلك من معنى.
إذن، كيف تدرّس الموسيقى للأطفال في مرحلة الروضة؟
توجد سبل عديدة لتدريس الموسيقى والفنون السمعية للأطفال في هذه المرحلة، يعتمد بعضها على ذات الفضول الفطري الذي يتعلم الطفل خلاله لغته الأم. وأوضح هذه السبل هي استخدام الأغاني المختلفة التي تناسب عمر الطفل وتحاكي محيطه، ويمكن أن يقترن ذلك بتوظيف الألعاب الإيقاعية لتعليم الإيقاع والنغمات بطرق حسية للطفل. ويمكن تضمين ما سبق في أنشطة متنوعة تتجاوب مع أهداف تنمية مهارات الطفل ونموه الجسدي والعقلي والنفسي الحركي والاجتماعي والثقافي. وفي هذه الأنشطة، يمكن التركيز على أنماط مختلفة من الفنون السمعية، مثل الغناء والقصص والأشعار، والعزف والاستماع والتعبير الحركي، والابتكار والارتجال.
تبدأ جميع المناهج بتدريب أذن الطفل على حسن الاستماع وتمييز النغم والإيقاع، ثم تعريفه تدريجيًا بالعناصر الأساسية للممارسة الموسيقية، مثل الإيقاع واللحن وتطوير ملكة السمع والحس الانفعالي، والصولفيج والبدء بتعلم العزف على آلة إيقاعية بسيطة.
التدرب على تطبيق الفنون السمعية في صفوف رياض الأطفال
انطلاقًا من الاستراتيجية السعودية لتنمية القدرات الثقافية، وتركيزها على إدراج الثقافة والفنون في جميع مراحل التعليم، أُطلقت عدة برامج لإعداد معلمات رياض الأطفال ورفع قدراتهن في مجالات الفنون المختلفة وتطويعها للأغراض التربوية والتعليمية. ومن هذه المبادرات هو البرنامج التأهيلي لمعلمات رياض الأطفال للتدريب على الفنون الموسيقية الذي أعلن عن بدء التسجيل في مرحلته الثانية عبر منصة روضتي.
وقد أجرينا حوارًا مع إحدى المعلمات اللواتي شاركن مؤخرًا في دورة تدريبية عن تنمية مهارات الفنون السمعية لدى الأطفال، تحدثنا فيها عن تجربتها وتطلعاتها:
سألنا المعلمة ولاء محمد -التي شاركت في برنامج وطني يهدف إلى تدريب المعلمات على تطبيق مهارات الفنون الموسيقية في مرحلة رياض الأطفال -كيف عززت الدورة التي شاركت فيها من قدراتك التدريسية فيما يتعلق بمهارات الفنون الموسيقية للأطفال؟
"ساعدتني بشكل كبير على ضبط الصف وجذب انتباه جميع الأطفال، أيضًا كان لها دور كبير في تدريب الأطفال على مشاعر مختلفة و استثارة انفعالات عديدة "
-كيف استطعتِ دمج الأنشطة الموسيقية في منهج فصلك الدراسي؟
"فعّلتها في بداية يومنا وقت اللقاء الصباحي لتسجيل الحضور والغياب حيث ينشد الطفل الحاضر اسمه ويستخدم الطبلة في ذلك .. أيضًا في فترة اللعب كان كل طفل يختار حركة خاصة به تتماشى مع الإيقاع.. وكنا نختم يومنا بها حتى أتأكد من أن جميع الأطفال عائدين للمنزل بشعور جميل .. وأخطط هذا العام بإذن الله بإضافتها في تعليم منهج الحروف.
-ما المهارات التي لاحظت أن الأطفال يطورونها من خلال الأنشطة السمعية والموسيقية؟
"رغم إنها كانت تجربة لفترة قصيرة لكني لاحظت أنها أثارت اهتمام الأطفال بالموسيقى وزادت من قدراتهم الموسيقية (تتبع الإيقاع )، على سبيل المثال : كنت في بعض الأوقات أختار حركات لا تتماشى مع الإيقاع وكانوا يصححونها لي. أيضًا كان لها دور كبير في تطوير إدراكهم البصري والسمعي في نفس الوقت ومنحهم ذاكرة أفضل على المدى القصير."
- كيف استخدمتي الانشطة والتطبيقات لحل مشكلة او تحدي تواجهينه بشكل متكرر في الصف (مثلا تحفيز الطلاب المترددين أو الخجولين في المشاركة)
"كان إشراك الطفل في التخطيط للأنشطة الموسيقية يساعد في الحد من مشكلة الخجل وإندماج الطفل مع بقية أقرانه"
وكما قدمنا، تُحقق الفنون السمعية وظائف تربوية وفنية بالغة الأثر على توازن نمو الأطفال، حيث تسهم في توسيع ثقافة المتعلم وتنمية قدراته على التعبير، كما تساعد في تكامل تكوينه العقلي والنفسي والسلوكي والاجتماعي. ومن خلال تعلم الموسيقى، يساعد المعلمون طلابهم على الوصول إلى تناغم بين المعرفة المجردة والتجربة من جهة، وبين إدراك الذات وتنمية الوعي الاجتماعي من جهة أخرى.
انضمي إلى دورة شهادة كاش- مستوى2: رعاية الطفولة المبكرة التي تقدم معرفة أساسية لممارسي رعاية الطفولة المبكرة وتؤهلك لمنصب مساعدة معلمة فصل في الروضات التابعة للنظام البريطاني.
________________________________________
المصادر:
[1] Greata, J. (2006) An Introduction to Music in Early Childhood Education, Thomson Delmar Learning, U.S.A. 270.
[2] Young, Suzan. (2016) Early Childhood Music Education Research: An Overview. In Research Studies in Music Education. 1-13.